اهتزتْ وربتْ؛ فكانتْ زهرة يانعة؛ تفتحتْ وتبدَّتْ، كثُر خُطّابُها وطالبوا ودَّها، فأبتْ إلا أن تهتدي بنور قلبِها؛ موقنةً أنّ الحياة دون حُبٍّ عبء ثقيل، وأنّ العشق ماؤها؛ فتركتْ خفقاتها ترق لمن مارستْ عيناه سطوها المستبد على رُوحها فأخضعها له، فانتشت وتألقت وفضلته على رجال العالمين؛ ورضيت أن يبحرا سويًّا في سفين حياتهما، تسبح في فضاء خيال يصور لها أجمل أمسيات وردية سيقضيانها معًا، فعشقت ذاتها وقَدَرها.
طواعيةً دارت في فلك اهتماماته وتطلعاته؛ تؤازر وتساند وتُعلي من همته وحماسه.. فأتاها يومًا من خلفها مبشّرًا بورقه الممهور؛ بأنّ الارتحال والغربة قدر مقدور، فطمأنته: "ريثما أكون معك فلا غربة، فأنتَ الأهل والصّاحب والوَلد والانتماء والوطن والسّند، وأنا امرأة تجيد البقاء والاحتمال".. طوقها بذراعيه؛ قبّلت يده معلنة أن قلبها مَسكنه، وامتلاك الأحلام مهمتهما المشتركة.
غادرا وكافحا وتبرعم في عشهما ثلاث وردات رائعات، بددتْ عتمة الغربة، وكسرتْ أصفاد الحنين الموجع للأهل والوطن، وازدانت الليالي وامتلأ فضاؤها ببراءة البسمات والضّحكات الطفولية العذبة، والتمعت الأحلام ليرسما معًا مستقبل الأبناء، فأراد الحنّان المنّان -الذي لا رادَّ لقضائه- إلا أن يتوج فرحتهما بمقعد صِدقٍ عند المليك المقتدر، فادَّخر لهما عظيم مفاجآته، واسترد وديعتين من ثلاثتيهما؛ ليصهر رب العزّة ذو الحكمة الوالدين بنار الألم والفراق لفلذتي كبديهما، حتى يغسل قلبيهما وينقيهما، كما يُنقى الثّوب الأبيض من الدَّنس، وكما الماس ساعة يُختبر بالنّار فيزداد بريقًا وصلادة.
ران الحزن وألقى بردائه على عشهما يتصبران بطلفهما الثّالث؛ ابنتهما "سَنا"؛ كونِهما وبريقِ حياتهما المُتبقي، وأسلما أمرهما لله؛ ينتظران يوم تبيض وجوه؛ فيأتياهما ولداهما الملائكان يقودانهما للجنة زُمرًا، ولأن العَين تدمع والقلب يحزن على فراق الأحبة؛ داهمتهما خيول الأنين، وتشقّقتْ التّربة تشتهي قطرات رواء من الثلج والماء والبَرَد؛ تُربتُ على كنوز الحزن الدّفينة، وتهدئ من صرخات ملتاعة محشورة في صدور ملتهبة وأفواه مكمّمة بأنين صامتٍ وبكاء دون دمع مُراق.
التفتت الأم الحانية لعصفورها الوحيد -ذِكْرِ رحمة ربها- ونادت ربَّها نداءً خفيًّا: رب لم يهن العظم مني، ولم يشتعل الرّأس شيبًا، ولم أكن بدعائك ربي شقيّة، فهب لي من لدنك وليًّا، وتولَّتْ تُعيد تلوين كابوس أيامها بريشة ألوان قوس قزح، تمحو قساوتها، وتهيئ نفسها لهدايا السماء.
لم تمضِ عدة أشهر على مُصاب صديقتي الجلل؛ إلا وتملكتني رغبة عارمة في الاتصال بها وكان ترتيبًا قدريًّا عجبًا؛ فجاءني صوتها يزفُّ إليّ خبر زواج زوجها اليوم (!!) توقفتْ مسامعي؛ واضطربتْ خفقاتي؛ وعُدتُ أسألها: زوجك مَنْ ؟! قالت: زوجي فلان؛ فليلةُ بنائِه اليوم (!!).. "يا إلهي.. أتمزحينَ حبيبتي ؟! لكن لماذا.. فمازلتما صغيرين وفي سن الإنجاب ؟! أوَ تملكينَ كل هذا الإيمان وكل هذا الثّبات ؟! اللهم ارزقني ثباتًا ويقينًا مثلك".
انهارتْ صديقتي باكيةً وصوتُ نحيبها يعلو: "لو كنتُ ذات إيمانٍ راسخ لمَا بكيتُ، ولمَّا غزا الحزنُ قلبي، أكادُ أجَن حين أتخيله في حضن امرأة غيري، وحين يـ... " ينقطع صوتها فجأة؛ أحسستُ بدموعها تغرقني بطوفانها مِن سماعة الهاتف.
أيا رجُلًا عشتَ أحلامها، وطرَّزتَ سماءها، وغادرتَ؛ فلم تترك لها إلا الوجع والقناديل المُطفأة الملتهبة، يا من رميتها بكلمات الوداع فلم تُجبْكَ إلا بنظرةٍ حَوَت كلماتها ومشاعر سنينها، يا من زرعتَ حنايا الرُّوح بخلايا حزنٍ خِلتها نائمة؛ فإذاها ستُفني روح صديقتي بددًا.
أوَ تبكينه يا صغيرتي ؟! مثله لا يستحق دمعَك، وهل الحياة مجرد رَجل ؟! قصتك يا حبيبتي ليست إلا قصة عشق خائبة "أخرى"، بيدكِ تخطين غيرها إن أردتِ، وبيدكِ تولِّين كل شغاف قلبك لعصفورك الصّغير الذي ينتظر رعايتكِ ليكون سندكِ وقت تحتاجين، وسيملأ داركِ بذرية تثلج قلبكِ وتُذهب لَوعته، كفاكِ -صديقتي- مُغالبة دمع رُوحك، وتقيأً لأنينٍ غير منتهٍ، هو الخاسر لا أنتِ، حين كنت تربتين على قلبه -وأنت التي تحتاجين أن يربِت هو على قلبك- حين كنت تفعلين ذلك أبَى إلا أن يغمدَ النَّصل حتى آخره؛ ليوئد بقية أحلامكِ، وبيده الأخرى يمدها لغيرك يكملُ معها بقية أيامه، لا تبكي ولا تعاقبي نفسك بقتلها حزنًا؛ فعلى مثله لا نبكي، ولا نُهرق الدمع النبيل، فلا يستحق دمعنا من لم يترك لنا سوى مُر المشاعر ووجع الحنين.
توَاءمي يا "غاليتي وتوأم رُوحي" مع حياتك الجديدة، فأنت تعيشين الآن الخَلاص من مرافقة قساة القلوب والمشاعر، ستظلين شَمعةَ لياليه الحزينة، وتبقين السَّكينة إذا ما ابتغى الهدوء والطّمأنينة، وحين تتقاذفكِ أمواج الأحزان فتصلين لقمة يأسك؛ لحظتها انتظري وترقبي مُلاطفة الأقدار لك، لتسبغ عليك كرم عطفها وحنانها؛ وقت تنهمر عليك عطايا السّماء تترى، انتظري؛ أليس الصُّبح بقريب ؟! استمعي لنصائحي؛ وابدئي حياتك من جديد غير نادمة على ما فاتك، وواجهي مصاعب الدّنيا بقوةٍ وثبات.
تمر الأيام؛ لتكشفَ للزوج سوء اختياره، شتّان ما بين المرأتين، الأولى صبرتْ واحتملتْ وتغرَّبت معه وتحملتْ آلام فقْد ابنيها، والثّانية ما تزال صغيرة لاهية؛ فارق السّن بينهما يُلقي برِداء المشاكل وسوء الفهم، ينفردُ بنفسه، يتذكرُ زوجته الأولى وقدرتها على فَهمه؛ شعرَ بحنينٍ جارف لها، الأن يدركُ خطأه، يقرّر أن يعودَ نادمًا، يعلم مقدرتها الفائقة على التّسامح.
لم يدْر إلا ويده تدقُ باب بيتها، تفتحُ له، يمدُّ ذراعيه ليضمها مُعتذرًا، يُلقي على مسامعها عبارات النّدم والتّوبة، يُمطرها بكلمات الحنين؛ وكيف ظلتْ روحه مُعلقة بها، وأنه لا يجد نفسَه إلا معها، ولا تسكنُ رُوحه إلا جوارها، يترجّاها، يَهِم بالدّخول ليغلقَ الباب خلفه، واثقًا من تأثير كلماته عليها، فلم يَكن يُكلف نفسه كثيرًا عناء الاعتذار لأنه يعلمُ حنوها ورِقّتها بل وعِشقها له؛ مما يجعلها تغفرُ أخطاءه بمجرد كلمة اعتذار بسيطة منه.. أو هكذا هُيئ له !!
بثباتٍ ترمقهُ صامتة، يبتسم لها، يعلم أنها تحبه وسرعان ما ستصفح عنه؛ هكذا عوّدته مذ تزوجها، لكن انتظاره يطول، واللحظات تمرُّ كدهرٍ؛ وهي ما تزال على ثباتها؛ لم تسمح له بالدّخول، ظنَّ أن بضع كلمات ستُعيد ما فات، اقتربَ منها يهِمُّ باحتضانها وإغراقها بقبلاته المشتاقة، ترفعُ يدها حاجزًا بينهما.
تشير لبطنها الذي تكوّرَ بشكل واضح، لحظتها ترجف أعضاؤه غير مُصدق؛ كيف لم ينتبه إلى أنّها قد تزوجت؛ فقد مرَّت الشّهور دون أن يسأل عنها، وكأنّه يوقنُ أنّها لن ترتبط بغيره وستظل تنتظر في محراب الذكريات !! ودَّ ألَو سألها: لمَ تسرَّعتِ حبيبتي؛ ولكن هل يملك الأن حق العتاب أو اللوم ؟
أدارتْ له ظهرها؛ سمعها تعتذرُ له كي يعود أدراجه من حيث أتى، ينسحبُ والحزن يكسوه، تُغلق خلفه الباب قبل أن يرى دموعها تنساب على وجنتيها؛ أو يسمع نحيبها، تضع يدها على بطنها تنتظر وليدها القادم، ليملأ فراغ الحزن الذي تعيشه، أحسّتْ بنوعٍ من التّشفي حين أخفتْ عنه أن ولده يقبع في رحمها منتظرًا موعد الخروج، فبقدر عمق جراحها، بقدر ما يجب أن تُعاقبه، إذ كيف تقوى على النّسيان ؟!
فتحت نافذة غرفتها على مصراعيها؛ تركتْ رياح النّسيان تداعبُ ستائرها، تنفستْ بعمق، شعرتْ براحةٍ كبيرة تسْري في أوصالها، أغمضتْ عينيها بارتياحٍ بالغ.. قد باتت أكثر قدرة على مواصلة الحياة وتقبّل أقدارها.